يحكي أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي، أن مجلة عربية تصدر في أميركا، ناشدتُه أن يُعدّل على لغة مقالاته وتعده بأن يتصدر بيانه اللغوي المسرح المهجري، وحينها كما يظهر لك من كتابات الرافعي تحت راية القرآن وغيره من أدباء ومفكري ذلك الزمن، أن الإعلام العربي في المهجر، على ظرفه وقلة إمكانياته كان يصل إلى المشرق، ويتم تداوله، رغم أن نقل المطبوعات حينها، يكون غالباً بالبريد البحري، لكن حالة الاشتباك كانت قوية مع المشرق، ليس بين المسلمين العرب فقط، بل حتى المسيحيين العرب، وارجع الى نصوص الرافعي، وإشاراته ومراسلاته مع أصدقائه المسيحيين من الشام ومصر، تجد ذالك متكرراً في كتابه.
مما يعني أن تيار الحرب على العربية كجامع حضاري إسلامي، والذي ارتبط بنشر العامية، أو بالتشكيك في تاريخ اللغة وفي آدابها، منذ العصر الجاهلي، لم يكن يمثل كل المسرح العربي الأدبي في حينه، ربما تصدر جدله د. طه حسين الذي أفرده الرافعي في مقدمة الكتاب، وأعلن رسمياً الحرب عليه، ولكنه دعا له دعوة صدق خاصة.
حتى أني تساءلت لو كان الرافعي حياً بعد مراجعات طه حسين، والخلاصات التي حررها، المفكر الإسلامي الكبير د. محمد عمارة، عن انتفاضة طه حسين في مرحلته الأخيرة على المشروع الغربي الفكري، هل كان الرافعي ليصدر الكتاب بهذا النسق، وبما تخلله من هجوم مستمر على طه؟ رحم الله الجميع.
غير أنك تكاد تقفز من مقعدك وتصفق في مسرح بيتك، وأنت جالس بين يدي الرافعي يهدر عليك بلاغةً وأدباً وذوقاً تعبيرياً يتقاطر كالشهد، وتتفهم بلا تردد معركته للدفاع عن العربية، وأن سفره العظيم تحت راية القرآن، لا يزال مؤثراً في معركة البيان وحضارة الإنسان، الذي وجدها العربي القديم، ووصل اليها العربي المعاصر، وهو يعيش تحت احتلال الحداثة، فصاح وهو في اكاديمية الرافعي، لقد وجدتُ الحقيقة.
لقد أصّر محمود شاكر على إدراج نقده القاسي، لمالك بن نبي رحمهما الله، والذي سمح بنشره بني نبي، في مقدمة الكتاب، وإن رد عليه في الظاهرة القرآنية، غير أن القضية هنا هو أن محمود شاكر، أراد أن يُصدّر الكتاب، بنقد التشكيك الاستشراقي في تاريخ اللغة وآدابها في العصر الجاهلي، وكان مالك بن نبي يريد طرح البيان العلمي الآخر للتنزيل المقدس، ويركز عليه.
وكلاهما كانا يواجهان مشروعاً كولونيالياً، وليس الأمر متعلقا بالإبداع، ولا بتفعيل النص في قوالب معاصرة متجددة، قال الرافعي نحن بها أولى، ولكن الأمر كان في العبث بمفردات اللغة، التي نزل بها البلاغ الأخير للعالمين، فكان الدفاع عنها أمام الاباطيل فريضة دينية، وحماية أخلاقية وفكرية.
يقول الرافعي أن رئيس تحرير صحيفة المهجر قال له شرط واحد، ليفرد لك مسرح الأدب العربي في المهجر؟
أن تتجنب الجملة القرآنية.
يقول الرافعي أخذ بقلبي المصطلح، أدركتُ أن عليه نورانية عجيبة، وأنا والله (كاتب هذا المقال) قد هزّني ما هزّ الرافعي.. الجملة القرآنية!
فصحتُ في نفسي الله أكبر، ياله من تعبير عظيم، من أين لك هذا يا صاحب الصحيفة، كيف تَلبّسَك النور وأنت تهدي الى الظلام، إنها قصة القرآن ومفردة العبور للعربية في كل زمان.
ولذلك حين أتيتُ معرض اسطنبول الدولي للكتاب العربي، ورفعتُ رأسي إلى الشعار، أسعدني وقعه ومعناه، (لتبقى العربية)، نعم لتبقى، ولكن للعربية هنا خصوصية في الأستانة، فهي عاصمة حاضر العالم الإسلامي، ملتقى الشرق والغرب، وإن كانت هناك ذاكرة سلبية، في التاريخ السياسي، قبل وبعد سقوط الدولة العثمانية، لكن كان للعربية دستوراً ثقافيا وأدبياً بين الأمم، وكان أهل الكتاب يجتمعون في اسطنبول تحت راية العربية، وعبر جسور التواصل الممتدة حتى الحجاز الشريف وبغداد والقاهرة وبيروت والمغرب العربي، فضلاً عن اشقائنا أمم الرسالة من غير العرب.
جميلة تلك الروح التي وجدتُها تدب في أروقة المعرض، وكنتُ في تخوّفٍ من أن المحاضرة التي اعتمدتها اللجنة الثقافية في المعرض، ثقيلة على الجمهور، غير أن مشهد تقاطر الحضور بعد بدئِها، حملني ورفع معنوياتي، فسعدتُ وحمدتُ الله أن العربية، حاضرة أيضاً في تحرير فلسفة القرآن، وكيف تتخلف وهي اللغة التي جاء به الوحي المنزل، لهداية الإنسان، كيف لا تحضر الجملة القرآنية لهدم الحكاية الحداثية، وأخذ العالم إلى ثورة الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، أوليس قرآن التنزيل هو من يفسر قرآن التكوين؟
شكراَ للمنظمين، ولكل تلك الأرواح التي التقتني في معرض الكتاب، من شباب ومثقفين، وشخصيات عربية وتركية وآسيوية وافريقية، إنها وحدتنا الإنسانية سبكتنا بها الجملة القرآنية، لذلك رفض الرافعي شرط المسرح الأميركي، وأعلن أنهُ مجاهدٌ قرآني للدفاع عن اللغة العربية.